شبهات تاريخية في هذه السلسلة سآخذ في تفنيد بعض الشبهات التي تثار وتتعلق بمراحل تاريخية سابقة، وهي شبهات تجد من يرددها ويسعى لتثبيتها في أذهان عامة المسلمين وخاصتهم، وهي إن صُدِّقت وأخذ بها وإعتُبرت مُسلَّمة فإنها ستعود بآثار خطيرة على الفكر والثقافة، وستدمر الصورة الناصعة لأسلاف المسلمين اليوم الذين يريدون العودة بالإسلام إلى ماضيه المجيد، وريادته السليبة.
ومن تلك الشبهات التي لفّت بظلالها الثقيلة على التاريخ الإسلامي أن الحكم بالإسلام لم يقم إلا أيام الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله أجمعين، وقد أثار هذه الشبهة جماعة من العلمانيين والمتحررين -الليبراليين- وأذنابهما ممن يدَّعِي الفهم والعلم والإنصاف، ويريد هؤلاء بمختلف أطيافهم -أو يفهم من طرحهم هذه الشبهة- ما يلي:
أولاً: إضعاف صلة مسلمي اليوم بأسلافهم، والتشويش على تاريخهم، وصبغه بسواد حالك، حتى لا يعودوا يعتزون به أو يفتخرون.
ثانيًا: قطع رجاء المسلمين اليوم من العودة إلى تحكم الإسلام من جديد، فإذا كان الإسلام لم يحكم في العهود السلفية الأولى التي يتغنى بأمجادها الأجيال، فهل سيحكم في القرن الخامس عشر- الحادي والعشرين؟!
ثالثًا: قطع الطريق أمام الحركات الإسلامية المطالبة بالعودة إلى تحكيم الإسلام في الأرض، وإثارة الغبار في وجوه مطالبها بهذا الزعم الغريب والعجيب.
رابعًا: إتهام كل ما سبق من دول وسلطنات وخلافات بهذا الجرم العظيم، ألا وهو عدم تحكيم الإسلام، وبهذا يضمحل إحترامهم في أذهان الأجيال القادمة.
خامسًا: وليصلوا من خلال كل ذلك إلى الزعم بأن الإسلام يتناول شطر الدين في حياة الناس فقط، أما الدنيا وسياستها وسَوس أهلها في مجالات حياتهم المختلفة، فليس للإسلام فيه حظ ولا نصيب.
والعجيب أنهم بنوا شبهتهم تلك على ما يلي:
1- أن نظام الحكم الإسلامي -الشورى- المبنيّ على إرادة الأمة وإختيارها قد إنقطع بعد الخلفاء الراشدين، وأصبح الملك عضوضًا ثم جبريًّا.
2- بعض مظاهر الظلم الذين كان يمارس من قبل بعض الأنظمة الحاكمة على إمتداد التاريخ الإسلامي.
ولنقض هذه الشبهة ينبغي أن يعلم ما يلي:
أولاً: إن نظام توريث الحكم الذي أخذ به بنو أمية ومن بعدهم من الخلفاء والسلاطين هو ملك عضوض وجبري، ويمثل مخالفة واضحة لطريقة الحكم الإسلامية، لكن يظل جزءًا من كل، ولبنة نزعت من بناء محكم، نعم هي لبنة مهمة ومؤثرة، لكن البناء لم يزل قائمًا وبقوة على إمتداد تاريخ الإسلام، وأعني بالبناء أن المرجعية في شئون الحياة المختلفة كانت في أغلب الأحيان للإسلام، وكتاب الله تعالى وسنة رسوله هما المرجع للأمة في شئونها.
ولم يسقط هذا البناء إلا بعد أن وطئت قدما المستخرب العالمي ديار الإسلام ونحّى الحكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام، وأنشأ المحاكم التي تحكم بالقوانين البشرية، وأضعف المحاكم الشرعية أو ألغاها، ونحى الإسلام عن تناول شئون السياسة، والإقتصاد، والإعلام، والفكر، والثقافة، وأتى بجملة من الحكام كانت صلتهم بالإسلام ضعيفة أو معدومة، ساهموا في تعطيل مسيرة الحكم الإسلامي أو إضعافها وإماتة أثرها.
ثانيًا: إن المستقرئ لتاريخ الإسلام إستقراء تامًّا واعيًا متأنيًا ليخرج بقناعة تامة أن هذه الأمة سيست بالإسلام، وكان الإسلام هو مدار حياتها والقائم على شئونها، والمهيمن على حركتها، ولتوضيح ذلك لابد من ذكر التالي:
أ) النظام القضائي: كان في الجملة مرتبطًا بالإسلام إرتباطًا وثيقًا، وكان القضاء في أغلب أحيانه مستقلاًّ عن السلطة التنفيذية، وضرب كثير من القضاة على مدار التاريخ أروع المثل على النزاهة والإستقلال والعدل.
ب) النظام الإقتصادي: يخلو أو يكاد من الربا، والمرابون من اليهود وغيرهم في خبايا الزوايا لا يجرءون أن يجاهروا بصنيعهم إلا في العصر الحديث، وللسيطرة الإستخرابية العالمية في العصر الحديث السبب الأكبر في هذا كما بينت آنفًا.
ت) النظام السياسي: والذي يمثله الخليفة أو السلطان ومن يساعدهما من الوزراء والأمراء كانوا في الجملة مسلمين مخلصين وإن تناولوا شيئًا من الشهوات، والسياسة الخارجية كانت تدور حول الإسلام ونصرته وإعداد العُدَّة للجهاد إذا لزم الأمر وإحتدم الخطب، وكان الحكام -على سوء في بعضهم- في الجملة مناصرين للإسلام، مخلصين، لا يفكرون في خذلان المسلمين ولا تضييع شعائر الدين، وكان بين الساسة خلاف لكنه لنصرة الإسلام الذي يأخذ به كل منهم -والخلاف بين الحكام السُّنَّة والشيعة مثال على هذا- أي أن الخلاف لم يكن غالبًا إلا لمصلحة الإسلام.
ث) نظام الحسبة: كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاشيًا في الدولة الإسلامية، ولو خالطه ضعف في بعض الأزمنة لكنه ظل قائمًا، مرعي الجانب، موفور المهابة، يتناول كثيرًا من جوانب حياة المسلمين، ويقوِّم كثيرًا من خللهم وضعفهم، وكانت المنكرات مستورة، فمن ذا الذي يجرؤ على فتح حانة للخمور، أو بيت للدعارة، أو مكان للقمار على وجه الإستعلان والظهور؟! ومن كان يفكر بأن يكتب الكتب في التهوين من شأن الإسلام وتقويض أركانه وإهانة علمائه ودعاته كما يحصل اليوم؟!
إن كل هذا الذي ذكرته كان قائمًا وبقوة في الألف سنة الأولى لحكم الإسلام، ثم أخذ في التقهقر والضعف لكن لا الزوال، ولكن يتقهقر في منطقة ويقوى في أخرى لكن الخط البياني كان إلى نزول، لكن ليس إلى زوال، ثم أخذ في الصعود منذ ثلاثين سنة خلت تقريبًا إلى اليوم، وكل المؤشرات تدل على أنه في صعود مستمر ولله الحمد إلى أن يبلغ غايته.
ثالثًا: إن كثيرًا من الدول قامت بنصرة الإسلام ورعايته وحياطته، وتطبيقه في الأرض، فالدولة الأموية التي يتهمها أهل الشبهات اليوم بأنها فرطت في الحكم الإسلام بتوارثها الملك، هي الدولة لبتي نصرت الشريعة وفتحت البلاد، وأنارت قلوب ملايين العباد، وأزالت عنهم الشرك والظلم والظلام، وكذلك فعل بنو العباس في كثير من مراحل حكمهم، وكذلك فعل الأيوبيون والمماليك، ودولة نور الدين زنكي التي كانت هديةً من الله لأهل الإسلام.
وكذلك الحال في زمان كثير من سلاطين السلاجقة وبني عثمان، والدولة المغولية في الهند وسيِّدها أورانج زيب عالمكير، الذي حكم الهند خمسين سنة أعادت للأذهان ذكرى حكم الراشدين، والغزنوي وسلطنته الباهرة في أفغانستان، وابن تاشفين وسلطنة المرابطين، وسلاطين الموحدين في المغرب، وممالك إفريقيا وسلطنة ابن فودي، وسلطنة المهدي وخلفائه في السودان، وكثير من حكام اليمن، وغير أولئك كثير من الممالك والسلطنات والإمارات التي قامت على الإسلام وبالإسلام، وضربت أروع المثل في تحكيم الكتاب والسنة.
أفإنْ قامت بتوريث الملك يقال: إنها لم تحكم بالإسلام، أو أن الإسلام لم يُحكّم فيها إلا زمن الراشدين، اللهُمَّ إن هذا تلبيسٌ مقرون بتدليس، وغش وخداع.
رابعًا: قد قامت في الإسلام دول لا تأخذ بمبدأ التوريث وقام عليها الزيدية والإباضية، فلا يورثون الحكم إلا لمن يرونهم أصلحهم وأعدلهم وأجدرهم بتولي مقاليد الحكم، وهذا حدث في دولة الزيدية في جيلان وطبرستان وتلك البقاع، وبعض مدد حكم الإباضية وغيرهم من الخوارج، وقامت دول على هذا الأساس بل هناك تجارب لأهل السُّنَّة، فسليمان بن عبد الملك لم يورِّث أولاده ولا إخوانه إنما ورثها عمر بن عبد العزيز وكان أصلح أهل بيته، بل ربما كان أصلح المسلمين في زمانه لتولي مقاليد الحكم.
والمأمون ولّى ولاية العهد علي بن موسى الرضا وهو ليس من العباسيين أصلاً، بل هو من آل البيت وأحد ثقات أهل السنة والجماعة، ولولا أنه مات قبل المأمون لتولى الخلافة. والمماليك كانوا يولون -في الغالب- الأصلح منهم أو الأقوى، ولا يعرفون نظام الوراثة هذا إلا نادرًا، وقد إمتد حكمهم قرابة ثلاثة قرون.
إذن كانت هناك تجارب لأهل السنة والجماعة وغيرهم، وهي تجارب قوية في عدم توريث الحكم، فالتعميم غير صحيح، ولا تساعده الحقائق التاريخية ولا الكتابات السياسية الإسلامية.
ثم إن أنظمة الحكم الإسلامي كانت تأخذ بالشورى في أغلب أوقاتها، وكان الحكم الدكتاتوري الفردي أمرًا قليل الحدوث، وكانت مجالس الحل والعقد قائمة من الأندلس إلى الهند، وكان أكثر العلماء ينصحون الحكام ويبتعدون عن دنياهم، ويتقربون إلى الله تعالى بمواقفهم الصلبة التي تسدد الحكام وتعيدهم إلى رشدهم، والأمثلة أكثر من أن تحصر، ولو ذهبت أدوِّن أمثلة على كل ما قلت فسيطول المقال وينقلب إلى كتاب كبير.
أما المظالم والمظاهر التي تخالف النظام الإسلامي والتي كانت قائمة في العهود الإسلامية، فأمرٌ لا ينكر لكن ليس على وجه التعميم والشمول، ثم إنها كانت مظالم مغمورة في بحر من الحسنات والإيجابيات، فلماذا يُركَّز عليها وتُترك الجوانب المضيئة الكثيرة في تاريخ الحكم الإسلامي؟!!
يتضح إذن أن المقولة التي تقول بأن الإسلام لم يطبق إلا زمن الراشدين هي مقولةٌ خداعة، لا تستند إلى دليل صريح أو تاريخ صحيح، وأنها مقولة إبتسارية تريد أن تهدم البناء كله، بسبب خلل بعض لبناته، وهي على كل حال مقولة مريبة لا نثق في قائليها ولا مروِّجيها، ونتهم نياتهم وبواعثهم، أو نقول: إن بعضهم مخدوع أو جاهل.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف.
المصدر: موقع التاريخ.